ذكريات جمعتها العكازات.

   ذكريات جمعتها العكازات.

         ______

   بعدما أغلقت الباب الحديدي الصغير الذي يلي باب الشقة أخذت     نفسًا عميقًا وأطلقته بإرتياح تصحبه إبتسامة عريضة وأنا أنظر إلى  البحر القريب من مسكني، لا بسبب دفىء وجمال طقس اليوم الذي    عادةً ما يكون بارد في معظم أيام كانون الأول/ديسمبر، لا بسبب استيقاظي مبكرًا بعد نوم طويل وهانئ على غير طبيعتي، ولا لأنني أكلت الغرانولا، التي انضمت مؤخرًا إلى ما أحب أن أأكله دون تملل-لو سألتني عنها في السابق لقلت قد يكون نوع من أنواع القرود-بل لأن اليوم أستطيع أن أمشي دون الحاجة لاستخدام العكازات، التي استعملتها لأوقات الضرورة كشراء ما يستلزم من السوبر ماركت الذي لا يبعد عني سوى دقيقتين لكنه يصبح بعيدًا عندما تمشي على أربعة أرجل.

 قبل أن أقرر أيّ طريق أسلكه نحو قلب المدينة، ضحكت وأنا أتذكر آخر مرة إستخدمت فيها العكازات، وكيف كانت سببًا في  إنقاذي عندما كنت في ساحة تيماء، أخذوا عدد من المتظاهرين   بجواري، اقتربوا مني، صاح أحدهمتركوا أبو أربع رجول ماله داعي نبتلش فيه".

تلاشت الضحكة بعدئذ وأنا أتذكر أيام " ما بعد تيماء" ومكالمة صديقي التي كانت حول تلك الأيام.

 وضعت السماعات السلكية على أُذنيّ وشغلت معزوفة الدانوب الأزرق للموسيقار يوهان شتراوس التي كان يحبها محمد شكري في مراهقته كما ذكر في كتابه (الخبز الحافي). 

قررت الذهاب في طريق البحر وأعاين المكان الذي أجبرني على البقاء  عدة أيام في الشقة، وربما ألتقي ببعض أولئك الذين كانوا يشفقون     على حالي، ويحاولون مساعدتي وأنا ممدّد على الأرض اتلوّى من ألم ركبتي، خاصة تلك السيدة التي أرادت مساعدتي في المرة الأولى  " آر يو اوكي ماي دارلنق ؟ دو يو وانت آني هلب ؟ " ثانكس مام، بوت آي كانت موڤ ماي لق، آي ول ويت ذا آمبلنس".

بعد ساعتين، عادت من ذات الطريق، وجدت(المقرود)ما زال في مكانهتأثرت أكثر هذه المرة، وهي ترى الجزء الأعلى من جسدي يرتجف بسبب البرد، سألتني " دو يو بليڤ إن ذا قاد ؟" " آي دو مام".  ثم أغمضت عينيها، و وضعت يدها على قدمي، وأخذت تدعو بصوت حاني وخافت لم أستطع سماعه، لكنني كنت أشعر بطمأنينة كما لو أنها أمي التي لم أراها منذ سنوات عدة.  تمنيت أن أشكرها لكن للأسف لم تجمعنا الأقدار هذه المرة.


توقفت في ذات المكان الذي سقطت به، واضعًا أكواعي على الحاجز  الخشبي بجواره وأراقب حركة البحر، تصحبني تساؤلات(عبير نعمة)وهي  ترنم " كيفَ لي أن أُشفى من حُبِكَ ؟ من يُداوي جُرحَ شوقي إليك ؟ ".

بعدما إنتهت موسيقى الفالس التي كان يعزفها شتراوس

اڤ يو آر نوت بليدنق آند يو كان بريثنق، ذا برايورتي نوت ڤور يو، سوري". 

أغلقت المكالمة وتأكدت أنني سأنتظر طويلًا.

عليّ أن أشغل ذهني إلى أن تأتي سيارة الإسعاف وأكفّ عن النظر    إلى المارة الذين يرونني بأعينهم المستعجلة، لا ألومهم، لقد اعتادوا      طوال حياتهم على مشاهدة أناس ممدّدين على الأرض.


في الساعة الثالثة من الانتظار، خف الألم، محاولات إشغال ذهني    مستمرة. تذكرت المكالمة الهاتفية التي جمعتني بأحد أصدقاء المهجر قبل بضعة أيام. بعدما انتهينا من الأسئلة المعتادة عن أحوالنا. أخبرني عن تغريدة يسأل ناشرها متابعيه الكويتيين البدون عن "اللحظة الأصعب التي عاشوها كبدون !". يقول على حد تعبيرهأزعجتني وافرحتني في آن".

أزعجته لأنه أخذ يفتش في ذاكرته مطولًا عن لحظة صعبة في حياة تسودها الخيبات والقيود، حتى قرر اللجوء إلى صوت (كريم منصورعوضًا عن المشاركة في الإجابة. يختبئ صديقي دومًا خلف صوت(أبو حاتم)كلما استصعبت عليه الكلمات، حتى يكاد يجزم انه هو وحده بجانب الفنان أكثر من نادا بس تعالوا".

أما ما أفرحه، فهو قدرة المشاركين في التعبير عن أصعب وأضعف لحظات حياتهم. سألني، " ماذا عنك ؟ خاصة وأن صداقتنا بدأت في المهجر لا قبله، ما أصعب لحظات حياة البدون وقتذاك ؟".


أصعب موقف حصل لي ! حسنًا لنقل أصعب فترة.

بعدما إنتهت نشوة المظاهرات، التي كانت تحجب جزء كبير من صعوبة الواقع اليومي آنذاك، أصبحت اسأل نفسي كل يوم  ثم ماذا ؟ ماذا أفعل الآن ؟ 

أخذت أعدد أسماء الكويتيين البدون إياهم الذين كنت ألتقيهم في الساحات، فلان يكمل تعليمه بالجامعة، فلان ممرض ويخطط للزواج عما قريب، فلان صحفي متزوج ولديه أطفال، معظمهم يملكون ما يلهيهم عن ثقل الواقع المعاشماذا عنك ؟ أين ملهاتك التي تخفف عبء أيامك ؟ 

لا أستطيع فعل ما أحب ولا أملك القدرة المادية على دخول الجامعة وما زلت وسأبقى أمتهن وظائف متعبة وبرواتب ضئيلة.

أتكون ملهاتي في الزواج ؟ ربما، لكن ليس هنا، لا أريد أن أكون سببًا في عودة لعنة سيزيف !

أنا عدوّ الفرضيات المعدومة ولهذا لن أبقى، لا أمل هنا.                إذن، لم يتبقى لي سوى الهجرة، صعبة لكن سأحاول. 

فشلت المحاولة الأولى والثانية والثالثة، خسرت أموالًا ادخرتها على مدى سنوات لكن الرابعة نجحت.

ولو عاد الزمن وفشلت ما يزيد عن أربعة محاولات سأستمر،فتجربة المهجر وإن كانت تتخذ لدى البعض صبغة الفراق الأبدي لكن بالنسبة لي أعطتني الوجود، وأعادت لي قيمة الحياة ورغبة الاكتشاف.


 صديقي إياه لديه جواب جاهز فيما لو سألني عن أصعب موقف في سنة 2023.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مواطن لأول مرة في حياتي !

العودة