مواطن لأول مرة في حياتي !

 اليوم سأحصل على الجنسية البريطانية ..


الجنسية الأولى في حياتي، الحصول عليها يعد انتصار ثمين بعد سلسلة طويلة من حياة الهزائم، جنسية وطن كنت أجهل لغته تمامًا، كما كنت أجهل العالم أجمع ولا أعرف سوى عالمي الصغير الذي يتكرر كما هو بإستمرار، جنسية وطن جئته خالٍ سوى من فُتات الأمل والتطلع والصبر.


منذ أسبوعان وصلتني عبر البريد الإلكتروني موافقة الحكومة البريطانية، الموافقة التي تأخرت كثيرًا نسبةً إلى الإجراءات المعتادة مع الجميع، وكما أكدت على ذلك( Karen Buck )نائبة حزب العمال في البرلمان بأنهم تأخروا ضعف المدة الطبيعية وأكثر، الآن عليهم إما أن يمنحوك الموافقة أو يجيبوننا. جاءت الموافقة بعد مراسلات النائبة. يبدو أن الواسطة وإن إختلفت أشكالها تنتصر على البيروقراطية حتى وإن كانت في بريطانيا.


خلال مدة الانتظار كنت ما بين حالتين، تارة أتعجب من التأخير وتارة أتعجب من تعجبي وأنا الذي عاش كل حياته-قبل المهجر-في الظل حيث اللا وجود ،والانتظار لشيء ما أمر مستهجن كمن يؤمن بالمعاجز.


في الصباح الباكر استيقظت وارتديتُ اللباس الذي يليق بإنسان سيصبح مواطن لأول مرة في حياته، واستعددت للذهاب إلى محطة قطار مدينة برايتون، المدينة التي أعيش وأعمل بها منذ ما يقارب ثلاثة أعوام، هي الأحب إليّ من بين عدة مدن أخرى عشت بها.


ركبت القطار الذاهب إلى لندن قاصدًا مبنى Westminster  Council House الذي لطالما مررت بجواره ضائعًا تتملكني الحيرة كأيّ غريب يجهل ما حوله، هذه المرة المبنى من الداخل سيمنحني حق الوجود بعدما كان يعتريني الفضول من الخارج بسبب جماله وضخامته.

أحب القطارات، يمنحني بسرعته الحالة الأمثل لترتيب الأفكار  واستعادة الذكريات والتأمل فيها، وأنا أشاهد المناظر الطبيعية والمنازل المتلاصقة بسرعة خاطفة لا تعطيني فرصة الإمعان بل حافزًا للتفكير.

في ومضات استرجاع سريعة يعيد ذهني ذكريات بدايات المهجر، صعوباته ومسراته، أوجاعه وافراحه.


أتذكر أولى لحظات اللجوء في مطار هيثرو، كان يتملكني التيه بل كنت التيه ذاته، بعد هبوط الطائرة قلت لنفسي 

ها أنا ذا مجهول في أرض مجهولة عليّ، سأرسم بها بالشكل الذي يحلو لي تفاصيل قد لا أنساها.

مشيت بخطوات وئيدة نحو موظفي المطار وأنا أكرر في ذهني كلمة لاجئ/  Refugee، مخزوني للمفردات الإنجليزية ضئيل للغاية هذه الكلمة اللعينة أصعبها عليّ، نطقها أمام موظفي المطار كان مهمتي الأولى، نطقتها أمام أحدهم، كانت ملامحه تقول أنه لم يفهمني، كررتها محاولًا استنساخ صوت صديقي الذي علمني عليها، أيضًا لم يفهمني، تمنيت حينها لو كان بإمكاني سرقة فم صديقي لأنطقها لكنهم أنقذوني، جاؤوا بموظف عربي من الجزائر، عرفني بإسمه وفهم مني ما أريد، طمئنني ثم أخذني لأكمل بقية إجراءات طلب اللجوء.


اللغة كانت عائقي الأكبر، خاصة في السنوات الأولى،

عندما قدمت إلى بلد المهجر كنت أجهل اللغة ولا أعرف عنها سوى بضعة كلمات أحاول حشرها في كل موقف يستدعي الحديث، صحيح بأنني ولله الحمد كابدت حتى تعلمتها شيئًا فشيئًا لكن أقولها عن تجربة..غربة اللغة أصعب بكثير من غربة المكان.

ولهذا صعوبات المهجر تختلف من فرد لآخر فأولئك الذين هاجروا وهم يملكون لغة محظوظون جدًا ويستطيعون الانخراط سريعًا مع المجتمع الجديد ويجدون الكثير من فرص العمل ناهيك على أن إكمال تعليمهم الجامعي طريقه أسرع بكثير من غيرهم.


أخذوني من المطار بعد نصف يوم إلى ملجأ في Croydon كبرى مناطق جنوب لندن، كل شيء فيه صغير الحجم، الغرف والأسرة والحمامات المشتركة، شاركت الغرفة مع عجوز من غانا، أدرك سريعًا جهلي باللغة، لم يزعجه ذلك كان طيبًا صبورًا، كان معلمي الأول في لغة الإشارة التي تصحبها No و Yes، علمني معنى كلمة Hungry بعدما اصطحبني إلى صالة الطعام المشتركة، ودعته بحزن بعد بضعة أيام حيث الملجأ الثاني في بلدة صغيرة بالقرب من مدينة Leeds، سجن قديم حولوه إلى ملجأ بجوار السجن الجديد، بين الحين والآخر أسمع أصوات غير مفهومة من السجناء، شعرت أنه التحذير الأول من الحكومة البريطانية كلاجئ جديد عليه أن يتبع النظام وإلا سأكون بالمبنى المقابل. كبير حجم الملجأ، فيه ما يزيد عن ستمائة لاجئ من شتى أوجاع ومصائب الأرض، شاركت الغرفة مع مهاجر عراقي في الخمسين من عمره، كان يتحدث عن حزب البعث  أكثر من أيّ شيءٍ آخر، بزهو يحدثني عن شبابه ومغامراته، رائحته نتنة ولديه عادة مستفزة، يلعق شفتيه برأس لسانه باستمرار، لا أدري كيف استحملتها طوال عشرة أيام، عندما أخبروني أنهم سينقلونني إلى منزل مشترك للاجئين في مدينة Newcastle فرحت كما لو أنني سجين أُفرج عنه.


في أقصى شمال إنجلترا، حيث المنزل الذي شاركته مع أربعة لاجئين، مهاجران كرديان وآخر من نيجيريا والرابع من الصومال،كان هو الأقرب إليّ، دلّني على كل الأماكن المهمة في نيوكاسل وحاول إيجاد عملًا لي، كان من أنقى الناس الذين عرفتهم في حياتي، كان إمام مسجد في إحدى عشوائيات مقديشو.

أتذكر صدمتي الأولى مما يقاسونه المهاجرون الأفارقة، يعبرون دول قارتهم وصولاً إلى ليبيا ثم من خلالها إلى سواحل إيطاليا، عصابات التهريب في ليبيا هي الأصعب وتركت آثارها الموجعة عليهم، كان يحدثني عبد الرزاق بلغة عربية فصيحة سليمة عن ما رآه من حالات اغتصاب وتعذيب وتنكيل، كان يتحدث وكأنه يطحن الكلمات بأسنانه.


سنة المهجر الأولى كانت الأصعب في حياتي، لم أملك المال ولا اللغة وقتذاك، كنت أعيش تفاصيل يومية متعبة، معزوفة النشيد الجنائزي لشوبان تناسبها، شوبان عزفها لي ولرفقاء تلك الأيام، سنة قاسية سحقتني فعليًا وعلمتني كيف أقدّر قيمة أبسط الأشياء، أتأمل دومًا تلك الأيام وأعاتب نفسي لو مارست سلوكًا يحيد عن ما علمتني إياه.


عيني تسبق خطواتي عندما لاح المبنى المقصود، داخل غرفة دافئة مليئة بالمقاعد تسمى The Mayfair Room

كانت تنتظرني إنجليزية ودودة مرحة، ربما في الخمسينيات من عمرها شعرها أشقر مقصوص و وجها غلامي وبشرتها بيضاء، هي من سأردد خلفها كلمات القسم ثم تمنحني شهادة الجنسية.

 قبل البدء قلت لها :

“I born as stateless and today i will get my first nationality “

أجابتني بصوت فيه مزيج من الغرابة والفرح :

“ You are the first stateless person i met in my entire life, so today will be special day for us”.



طلبت من صديقي الذي رافقني أن يصورني وأنا أحمل شهادة الجنسية، في كل الصور السابقة كنت أزيف ابتسامتي، واظبتُ دومًا على أن أركّب ابتسامة، تمرنت على تركيب هذه الابتسامة، لكن اليوم ابتسامة حقيقية تختلف عن سابقاتها، لكنها مؤقتة، تنهار سريعًا بعدما أتذكر بأنني وحدي من ينجو، وحدي من يمتلك الآن ما لا تملكه عائلتي والكثير من الأصدقاء والمجتمع الذي عشت فيه.


تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ذكريات جمعتها العكازات.

العودة